لكل من الزوجين : حق الغيرة :
تقرير الشرع لحق الغيرة السوية
عن جابر بن عتيك : أن النبي ﷺ كان يقول : " من الغيرة ما يحب الله ، ومنها ما يبغضه الله ، فأما التي يحبها الله فالغيرة في الريبة ، وأما التي يبغضها الله فالغيرة في غير ريبة . [ رواه أبو داود ] (۳۲۰) .
قال عياض : الغيرة مشتقة من تغير القلب وهيجان الغضب ، بسبب المشاركة فيما به الاختصاص . وأشد ما يكون ذلك بين الزوجين ... وقيل الغيرة في الأصل الحمية والأنفة ، وهو تفسير " يلازم التغير " فيرجع إلى الغضب (۳۲۱) .
وهذا التعريف يفيد أن الغيرة المحمودة المشروعة من جانب الرجل ، هي ما كانت بسبب مشاركة الرجال الأجانب له فيما به اختصاصه من زوجه ، وعلى ذلك ليست رؤية الأجانب لوجهها وكفيها ، أو محادثتها بالمعروف ، مما به اختصاص الزوج .
أنواع الغيرة الغيرة المحمودة :
وهي ما كانت في ريبة ، ومثالها :
. عن سعيد بن عبادة قال : يا رسول الله ، لو وجدت مع أهلي رجلاً لم أمسه حتى آتي بأربعة شهداء ؟ ! قال رسول الله ﷺ : نعم ، قال : كلا والذي بعثك بالحق ، إن كنت لأعاجله بالسيف قبل ذلك . قال رسول الله ﷺ : اسمعوا إلى ما يقول سيدكم ، إنه لغيور ، وأنا أغير منه والله أغير مني . ) وفي رواية البخاري (۳۲۲) : ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، ولا أحد أحب إليه العذر من الله ، ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين ) . [ رواه البخاري ومسلم ] (۳۲۳). وهذه رواية مسلم .
الغيرة هنا في ريبة لذا كانت محمودة ، لكنها زادت عن الحد إذ دفعت إلى قول ما لا ينبغي أن يقال . وربما تدفع رجلاً آخر إلى فعل ما لا ينبغي وهو قتل الزاني ، بينما الشارع وضع ضوابط لا تبيح قتل الزاني دون أربعة شهود . وكذلك يحمد كل زوج وزوجة إذا كانت منهما غيرة ، في ريبة وقعت من الطرف الآخر .
الغيرة المذمومة :
وهي ما كانت في غير ريبة ، ومثالها :
عن محمد بن قيس بن مخرمة بن المطلب أنه قال يوماً : ألا أحدثكم عني وعن أمي . قال : فظننا أنه يريد أمه التي ولدته . قال : قالت عائشة : ألا أحدثكم عني وعن رسول الله ﷺ قلنا : بلى . قال : قالت : لما كانت ليلتي التي كان النبي ﷺ عندي ، انقلب فوضع رداءه (۲۹) وخلع نعليه فوضعهما عند رجليه ، وبسط طرف إزاره (۲۰۰) على فراشه فاضطجع ، فلم يلبث إلا ريثما ظن أن قد رقدت ، فأخذ رداءه رويدا وانتعل رويدا ، وفتح الباب فخرج ثم أجافه رويدا (*) ، فجعلت درعي (٢٠٠) في رأسي واختمرت (۲۰۱) وتقنعت إزاري (٢٠٢) ، ثم انطلقت على إثره حتى جاء البقيع (۲۰۲) ، فقام فأطال القيام ثم رفع يديه ثلاث مرات ، ثم انحرف فانحرفت ، فأسرع فأسرعت ، فهرول فهرولت ، فأحضر (٣٠٠) فأحضرت فسبقته فدخلت . فليس إلا أن اضطجعت فدخل فقال : مالك يا عائش حشيا (٢٠٠) رابية (٢٠٦) قلت : لا شيء . قال : لتخبريني أو ليخبرني اللطيف الخبير . قلت : يا رسول الله بأبي أنت وأمي ، فأخبرته قال : فأنت السواد الذي رأيت أمامي ؟ قلت : نعم فلهدني (٢٠) في صدري لهدة أوجعتني . ثم قال : أظننت أن يحيف (٣٠٠) الله عليك ورسوله قالت : مهما يكتم الناس يعلمه الله ، نعم . قال : فإن جبريل أتاني حين رأيت فناداني فأخفاه منك ، فأجبته فأخفيته منك ، ولم يكن يدخل عليك وقد وضعت ثيابك (٢٠٠) ، وظننت ان قد رقدت فكرهت أن أوقظك ، وخشيت أن تستوحشي (۳۱۰) . فقال : إن ربك يأمرك أن نلي أهل البقيع فتستغفر لهم . قالت قلت : كيف أقول لهم يا رسول الله ؟ قال : قولي : السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين ، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون . رواه مسلم] (٣٢٥، ٣٢٤). عن أبي سعيد الخدري قال : كان فتى منا حديث عهد بعرس ، قال : فخرجنا مع رسول الله ﷺ إلى الخندق ، فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله بأنصاف النهار يرجع إلى أهله ، فاستأذن يوماً فقال له رسول الله ﷺ : خذ عليك سلاحك فإني أخشى عليك قريظة ، فأخذ الرجل سلاحه ثم رجع ، فإذا امرأته بين البابين قائمة . فأهوى إليها الرمح ليطعنها به ، وأصابته غيرة ، فقالت له : اكفف عليك رمحك ، وادخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني ، فدخل فإذا بحية عظيمة منطوية على الفراش ، فأهوى إليها بالرمح ...[ رواه مسلم ] (٣٢٦).
وقد سبق ذكر هاتين الواقعتين عند عرضنا لحق الثقة وحسن الظن ، وذلك لبيان إنكار الشارع لهذا المستوى من الغيرة التي تعني سوء الظن بالصاحب .
الغيرة الزائدة :
أي غيرة تزيد قدرا ما عن حد الاعتدال ، وهذه ينبغي أن يترفق في معالجة آثارها ، وينبغي أيضاً اجتناب مثيراتها ، هذا من جانب الصاحب المعافى . أما الطرف المبتلى فعليه أن يبذل جهده في ضبط مشاعره قدر الإمكان ، كما عليه ضبط سلوكه حتى لا يصدر منه ما يخالف الشرع . وهذه بعض الأمثلة لأصحاب الغيرة الزائدة :
عن ابن عمر قال : كانت امرأة لعمر تشهد صلاة الصبح والعشاء في الجماعة في المسجد . فقيل لها لم تخرجين وقد تعلمين أن عمر يكره ذلك ويغار ؟ قالت: وما يمنعه أن ينهائي ؟ قال : يمنعه قول رسول الله : " لا تمنعوا إماء الله مساجد الله .
يمنع زوجته من الذهاب للمسجد التزاماً . هنا تلمس ضبط عمر الغيرته الزائدة فلم رواه البخاري ) (۳۲۷) بقول الرسول ﷺ : " لا تمنعوا إماء الله مساجد الله " .
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : قال النبي ﷺ: رأيتني دخلت الجنة ورايت قصراً بغنائه جارية . ( وفي رواية (۳۲۸) فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر ) فقلت : لمن هذا ؟ قالوا : العمر ، فأردت أن أدخله فأنظر إليه ، فذكرت غيرتك ( فوليت مديراً ) ، فقال عمر : بأبي وأمي يا رسول الله أعليك أغار ؟! [رواه البخاري ومسلم ) (۳۲۹) الغيرة هنا لا علاقة لها بزوجة عمر ، ولكن للحديث دلالة أشار إليها ابن بطال بقوله : يؤخذ من الحديث أن من علم من صاحبه خلقا لا ينبغي أن يتعرض لما ينقره (۲۳۰) . فالحديث يبين كيف راعى رسول الله ﷺ غيرة عمر الزائدة فولى مديراً . كما يبين كيف تغلب إجلال عمر الرسول الله ﷺ على غيرته الزائدة . وهكذا ينبغي أن يتعلم الزوجان من رسول الله ﷺ فلا يتعرضان قدر الإمكان لما يثير الغيرة الزائدة - إن وجدت عند الطرف الآخر.
عن أسماء بنت أبي بكر قالت : ... وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله ﷺ على راسي ، وهي مني على ثلث فرسخ (۳۱) . فجئت يوماً والنوى على رأسي ، فلقيت رسول الله ﷺ ومعه نفر من الأنصار ، فدعاني ثم قال : اخ اخ (٢١٢) . ليحملني خلفه ، فاستحييت أن أسير مع الرجال ، وذكرت الزبير وغيرته ، وكان أغير الناس . فعرف رسول الله ﷺ أني قد استحييت فمضى ، فجئت الزبير فقلت: لقيني رسول الله وعلى رأسي النوى ومعه نفر من أصحابه ، فأناخ لأركب فاستحييت منه وعرفت غيرتك ، فقال : والله لحملك النوى كان أشد على من ركوبك معه [ رواه البخاري ومسلم ] (۲۳۱).
نلحظ هنا كيف تحملت أسماء المشقة مراعاة لغيرة زوجها الزائدة . كما نلحظ أن مروءة الزبير كادت أن تتغلب على غيرته الزائدة ، وذلك عندما قال : " والله لحملك النوى على رأسك كان أشد علي من ركوبك معه " ويوضح هذا المعنى الحافظ ابن حجر بقوله : أي كان ركوبها أخف مما تحقق من تبذلها بحمل النوى على رأسها من مكان بعيد ، لأنه قد يتوهم خسة النفس ودناءة الهمة .... ولكن كان السبب الحامل على الصبر على ذلك شغل زوجها بالجهاد وغيره... فكانوا لا يتفرغون للقيام بأمور البيت بأن يتعاطوا ذلك بأنفسهم ، ولضيق ما بأيديهم عن استخدام من يقوم بذلك عنهم (۳۳۲).
كما نلاحظ كيف تحملت أسماء المشقة مراعاة لغيرة زوجها .
عن أسماء قالت : فجاءني رجل فقال : يا أم عبد الله ، إني رجل فقير أردت أن أبيع في ظل دارك . قالت : إني إن رخصت لك أبي ذلك الزبير ، فتعال فاطلب إلى والزبير شاهد . فجاء الرجل فقال : يا أم عبد الله ، إني رجل فقير أردت أن أبيع في ظل دارك . فقالت : مالك بالمدينة إلا داري فقال لها الزبير : مالك أن تمنعي رجلا فقيرا يبيع . فكان يبيع إلى أن كسب [ رواه مسلم ] (۲۳۳).
وهنا نرى أسماء تعمل الحيلة لمعالجة غيرة زوها ، ونرى الزبير في الوقت نفسه يغلب حب عمل المعروف على مشاعر الغيرة . عن أم سلمة : . . قالت : أرسل إلى رسول الله ﷺ حاطب بن أبي بلتعة يخطبيني له ، فقلت : إن لي بنتاً وأنا غيور . فقال : أما ابنتها فندعو الله أن يغنيها عنها ، وأدعو الله أن يذهب الغيرة . [ رواه مسلم ] (٣٣٤).
هنا تقر أم سلمة رضي الله عنها بغيرتها الزائدة ، وتعتذر بسببها عن قبول الزواج برسول الله ﷺ ، رغم ما في صحبته من تكريم وتشريف
وهذه الغيرة يعذر صاحبها ما لم يفعل حراماً ، أي بعض الطرف عن الصغائر والهفوات التي تصدر منه ، ومن أمثلتها :
غيرة المرأة من الزوجة السابقة :
عن عائشة رضي الله عنها قالت : ما غرت على أحد من نساء النبي كما عرت على خديجة ، وما رأيتها ، ولكن كان النبي يكثر ذكرها . وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة ، فربما قلت له : كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة ، فيقول : إنها كانت وكانت ، وكان لي منها ولد . [ رواه البخاري ] (٣٣٥).
عن عائشة رضي الله عنها قالت : استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله ﷺ فعرف استئذان خديجة فارتاع (۲۳) لذلك ، فقال : اللهم ها لة ، قالت: فقرت فقلت : ما تذكر من عجوز من عجائز قريش ، حمراء الشدقين (٢١٠) هلكت في الدهر ، قد أبدلك الله خيرا منها ؟ [ رواه البخاري ومسلم ] (٢٣٦).
هنا عذر النبي ﷺ عائشة ، وتغاضى عما قالته في حق خديجة غيرة المرأة من ضرتها : عن أنس قال : كان النبي ﷺ عند بعض نسائه ، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصحفة (٢٠٠) فيها طعام . فضربت التي النبي الله في بيتها يد الخادم ، فسقطت الصحفة فانطلقت ، فجمع النبي ﷺ فلق الصحفة ، ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة ، ويقول : غارت أمكم . ثم حبس (٣١٦) الخادم حتى أتى بصحفة من عند التي هو في بيتها ، فدفع الصحفة الصحيحة إلى التي كسرت صحفتها ، وأمسك المكسورة في بيت التي كسرت فيها ، ( رواه البخاري ) (۳۳۷).
هنا الزمت الغيرى بضمان ما أتلفته ، ولم يزد الرسول على قوله : غارت عن عائشة رضي الله عنها : أن النبي ﷺ كان يمكث عند زينب ابنة جحش ويشرب عندها عسلاً . ( وفي رواية (۳۳۸) : فاحتبس أكثر ما كان يحتبس ، فغرت ) فتواصيت أنا وحفصة : أن أيتنا دخل عليها النبي ﷺ فلتقل : إني لأجد منك ريح مغافير (۲۱۷) . أكلت مغافير ؟ فدخل على إحداهما فقالت له ذلك ، فقالت : لا بأس ، شربت عسلاً عند زينب ابنة جحش ولن أعود له ، ( وفي رواية :(۳۳۹) فلن أعود له ، وقد حلفت ، لا تخبري بذلك أحدا ( فنزلت : ( يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك) إلى : ( إن تتوبا إلى الله ) لعائشة وحفصة . ( وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثاً ) لقوله : بل شربت علاً ، [ رواه البخاري ومسلم ) ٣٤٠).
هنا وقع إنكار للفعل ونزل في ذلك قرآن يتلى ، وهو قوله تعالى : ( يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثاً فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض . فلما نبأها به قالت من أنباك هذا قال نبأني العليم الخبير إن تتوبا إلى الله فقد صغت (۳۱۸) قُلُوبِكُما وإن تظاهرا (۳۱۹) عليه فإن الله هو مولاة وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهيرا (٢٢٠) ) سورة التحريم : الآيات ١ : ٤].
عن المسور بن مخرمة قال : إن علياً خطب بنت أبي جهل ، فسمعت بذلك فاطمة فانت رسول الله ﷺ ، فقالت : يزعم قومك أنك لا تغضب لبناتك ، وهذا على ناكح بنت أبي جهل . فقام رسول الله ﷺ ، فسمعته حين تشهد يقول : أما بعد ... وإن فاطمة بضعة مني (١) وإني أكره أن يسوءها .... ) وفي رواية ثانية (٣٤١): وإني أتخوف أن تفتن في دينها .... . وإني لست أحرم حلالاً ولا أحل حراماً ) وفي رواية ثلاثة (٣٤٢) : يريبني ما أرابها ويؤذيني ما آذاها ) [ رواه البخاري ومسلم ] (