الورع والإخلاص
عن أبي عبد الله النعمان بن بشير رضى الله عنهما قال : - سمعت رَسُولَ الله صَلَّى الله عليه واله وسَلَّمَ يَقُولُ إنَّ الخَلالَ بين وإن الحرام بين وبينها أُمُورُ مُشتبهات لا يَعْلَمُهُنَّ كثير من الناس. أنفى الشَّبُهَاتِ فقد استبرا لدينه وعرضه ومَنْ وقع في بهات وقع في الْحَرَام كالراعي يُرْعَى حَوْلَ الحمى يُوشِكُ أَنْ يرتع فيه، ألا وإنَّ لكُلِّ مَلك حى، ألا وإن حمى الله تَحَارِمُه الا وإن في الجَسَدِ مُضْغَةً إذا صلحت صلح الجَسَدُ كُله وإذا فَسَدَتْ فَسَد الجَسَدُ كُلَّهُ ألا وهي الْقَلْبُ». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ومُسلم.
التعريف براوي الحديث
هو النعمان بن بشير الانصاري الخزرجي، هو وأبوه صحابيان سكن الشام، وولي الكوفة وحمص مات سنة / ٦٤ / هـ .
الشرح
هذا الحديث أصل عظيم من أصول الشريعة . قال أبو داود السجستاني : الإسلام يدور على أربعة أحاديث ذكر منها هذا الحديث
وأجمع العلماء على عظيم موقعه وكثير فوائده إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات يعنى أن الأشياء ثلاثة اقسام . على تحليله فهو الحلال : كقوله تعالى (أحل
الله ذلك .
لكم الطيبات وطعام الذين أوتو الكتاب حل لكم) وكقوله (وأحل لكم ما الأول ما نصر وراء ذلكم ونحو
الثاني ما نص الله على تحريمه فهو الحرام البين : مثل قوله تعالى حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم الآية.. وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما) وكتحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وكل ما جعل الله فيه حدا أو عقوبة أو وعيدا فهو حرام.
الثالث الشبهات . وهي كل ما تتنازعه الأدلة من الكتاب والسنة وتتجاذبه المعاني، فالأمساك عنه .ورع. وقد اختلف العلماء في المشتبهات التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، فقالت طائفة : هي حرام لقوله قالوا : ومن لم يستبرىء (استبرأ لدينه وعرضه ) المدينه وعرضه فقد وقع في الحرام. وقال الآخرون : حلال بدليل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث فيدل على (كالراعي يرعى حول الحمى. أن ذلك حلال وأن تركه ورع وقالت طائفة أخرى : المشتبهات المذكورة في هذا الحديث لا نقول إنها حلال ولا إنها حرام، فإنه صلى الله : هي عليه وسلم جعلها بين الحلال البين والحرام البين، فينبغي أن نتوقف عنها، وهذا من باب الورع أيضا. وقد ثبت في حديث الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة في غلام فقال سعد : يا رسول الله ، هذا ابن أخى عتبة بن أبي وقاص عهد إلى أنه ابنه انظر إلى شبهه وقال عبد بن زمعة هذا أخي
اهر الجمعة يا رسول الله ، ولد على فراش أب من وليدته في النطح رسول المال و الله علیه وسلم فرأى شبها بينا بعتبة، فقال للفراش وللعاهر الحجر، واحتجبي منه يا سوده فلم تره سوده قط فقد حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالولد للفراش وأنه الزمعة على الظاهر، وأنه أخو سودة زوج النبي صلى الله عليه وسلم لأنها بنت زمعة وذلك على سبيل التغليب لا على سبيل القطع ، ثم أمر سودة بالاحتجاب منه للشبهة الداخلة عليه، فاحتاط لنفسه وذلك من فعل الخائفين من الله عز وجل، إذ لو كان الولد ابن زمعة في علم الله عز وجل لما أمر سودة بالاحتجاب منه كما لم يأمرها بالاحتجاب من سائر إخوانها : عبد وغيره، وفي حديث عدى بن حاتم أنه قال : يا رسول الله، إني أرسل كلبي ولا تأكل إنما وأسمى عليه، فأجد معه على الصيد كلبا آخر، قال على كلبك ولم تسم على غيره) فأفتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشبهة أيضا خوفا من أن يكون الكلب الذي قتله غير مسمى فكأنه أهل لغير الله به ، وقد قال الله تعالى في ذلك (وإنه لفسق) فكان في فتياه صلى الله عليه وسلم دلالة على الاحتياط في الحوادث والنوازل المحتملة للتحليل والتحريم لاشتباه ،أسبابها، وهذا معنى قولى صلى الله عليه ،
عليه وسلم دع ما يريبك إلى ما لا يريبك). المشتبهات ثلاثة أقسام
الأول ما يعلم الإنسان أنه حرام ثم يشك فيه هل زال تحريمه أم لا؟ كالذي يحرم على المرء أكله قبل الذكاة إذا شك في ذكاته لم يزل التحريم إلا بيقين الذكاة، والأصل في ذلك حديث عدى المتقدم ذكره .
الثاني : ان يكون الشىء حلالا فيشك في تحريمه كرجل له زوجة فشك في طلاقها، أو أمة فيشك في عتقها، فما كان من هذا القسم فهو على الإباحة حتى يعلم تحريمه، والأصل في هذا حديث عبد الله بن زيد فيمن
شك في الحدث بعد أن تيقن الطهارة .. الثالث : أن يشك في شيء فلا يدري أحلال أم حرام ؟ ويحتمل الأمرين جميعا، ولا دلالة على أحدهما فالأحسن التنزه، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في التمرة الساقطة مهامان وجدها في بيته فقال الولا أتي الصدقة لاكلتها وأما إن جوز نقيض ما ترجح عنده أخشى أن تكون من تقدير بأمر موهوم لا أصل له كترك استعمال ماء باق على أوصافه مخافة : نجاسة وقعت فيه أو كترك الصلاة في موضع لا أثر فيه مخافة أن يكون فيه بول ،قد جف، أو كغسل ثوب مخافة إصابة نجاسه لم يشاهدها ونحو ذلك فهذا يجب أن لا يلتفت إليه فإن التوقف لأجل ذلك التجويز هوس والورع منه وسوسة شيطان، إذ ليس فيه من معنى الشبهة شيء والله اعلم . وقوله : صلى الله عليه وسلم ( لا يعلمهن كثير من الناس أي لا يعلم حكمهن من التحليل والتحريم وإلا فالذي يعلم الشبهة يعلمها من حيث إنها مشكلة لترددها بين أمور محتملة، فإذا علم بأي أصل يلتحق زال كونها شبهة، وكانت إما من الحلال أو من الحرام، وفيه دليل على أن الشبهة لها حكم خاص بها يدل عليه دليل شرعي يمكن أن يصل إليه بعض الناس. ( فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه) مما يشتبه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام فذلك يكون بوجهين :
الوجه الأول: أن من لم يتق الله وتجرأ على الشبهات أفضت به إلى المحرمات، ويحمله التساهل في أمرها على الجرأة على الحرام، فالصغيرة تجر الكبيرة، والكبيرة تجر الكفر، وكما روى المعاصي بريد الكفر). الوجه الثاني : أن من أكثر من مواقعة الشبهات أظلم عليه قلبه ، العلم ونور الورع ، فيقع في الحرام وهو لا يشعر به . وقد يأثم بذلك إذا تسبب منه إلى تقصير، وقوله صلى الله عليه وسلم (كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه هذا مثل ضربه لمحارم الله عز وجل. وأصله أن العرب كانت تحمى مراعى لمواشيها، ويخرج بالتوعد بالعقوبة لمن قربها، فالخائف من عقوبة السلطان يبعد بماشيته عن ذلك الحمى، لأنه إن قرب منه فالغالب الوقوع فيه، لأنه قد تنفرد الفاذة وتشذ لفقدان نور الشاذة ولا ينضبط، فالحذر : أن يجعل بينه وبين ذلك الحمى مسافة يأمن فيها وقوع ذلك، وهكذا محارم الله عز وجل، من القتل والربا، والسرقة، وشرب الخمر والقذف والغيبة والنميمة، ونحو ذلك : لا ينبغي أن يحوم حولها مخافة الوقوع فيها : و(يرتع) معناها : أكل الماشية من المرعى. وأصله إقامتها فيه وبسطها في الأكل، وقوله صلى الله عليه وسلم (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، المضغة القطعة اللحم، وهي قدر ما يمضغه الماضغ، يعنى بذلك صغر جرمها وعظيم قدرها و القلب في الأصل مصدر، وسمى به هذا العضو الذي هو أشرف الأعضاء لسرعة الخواطر فيه وترددها عليه. من وانشد بعضهم في هذا المعنى : ما سمى القلب إلا من تقلبه فاحذر
فاحذر على القلب من قلب وتحويل
وخص الله تعالى جنس الحيوان بهذا العضو، وأودع فيه تنظيم المصالح المقصودة، فتجد البهائم على اختلاف أنواعها تدرك به مصالحها وتميز به مضارها من منافعها، ثم خص الله نوع الإنسان من سائر الحيوان بالعقل وأضافه إلى القلب فقال تعالى أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم وقد جعل الله الجوارح مسخرة له قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها ومطيعة، فما استقر فيه. ظهر عليها وعملت على معناه : إن خيراً فخير وإن شرا فشر ..
فإذا فهمت هذا ظهر لك قوله صلى الله عليه وسلم ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد نسأل الله العظيم أن يصلح فساد قلوبنا، يا مقلب كله، ألا وهي القلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك يا مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك .
ما يستفاد من الحديث :
۱ - على المسلم ان يأخذ الحلال ويبتعد عن الحرام. ۲- على المسلم أن يحرص على الابتعاد عن مواقع الشبهات - ما ادى الى الحرام فهو حرام ٤ - على المسلم ان يصلح قلبه لأن في صلاحه صلاح الجسد .